languageFrançais

مجتمع تحت الضغط: حين تتحوّل 'النجاعة' إلى عبء..

في ظلّ التحوّلات الاجتماعية العميقة التي تشهدها تونس، تبدو ملامح المجتمع في طور إعادة تشكّل غير مسبوقة، تمسّ بنيته العائلية وتؤثّر على آليات التفاعل الفردية. في هذا السياق، يسلّط الدكتور محمد جويلي، أستاذ علم الاجتماع، خلال استضافته في برنامج ''واحد من الناس'' مع شاكر بسباس، الضوء على ما يسميه بـ"التحوّل القيمي الجارف"، حيث أصبحت النجاعة (la performance) قيمة مهيمنة، تتسلل إلى مختلف مفاصل الحياة، وتعيد تشكيل الهوية الفردية والاجتماعية على حدّ سواء.

تفكّك البنى التقليدية للعائلة

يُشير جويلي إلى أنّ العائلة التونسية تمرّ بتحوّل هيكلي عميق؛ من العائلة الممتدة إلى العائلة النووية الصغيرة، حيث لم تعد العائلة تلعب دورها الرمزي والتضامني السابق، بل تقلّص حضورها إلى مجرد وحدة سكنية تجمع أفرادًا لكلٍّ منهم مشروعه الفردي المستقل، بل والمتناقض أحيانًا مع مشاريع بقية أفراد الأسرة.

ويُؤكّد جويلي على أنّ هذا التغيّر أدّى إلى نمط جديد من "التعايش الفرداني" داخل نفس الفضاء العائلي، تُختزل فيه العلاقات إلى تفاهمات آنية، يغيب عنها الانتماء المشترك للمصير ذاته. أما الأدوار الأسرية، التي كانت تُسلَّم وتُمارس دون نقاش، فقد أصبحت الآن محلّ تفاوض دائم، ما يخلق توترًا داخليًا وتعرّضا أكبر للعنف الرمزي والمادي، بل وحتى النفسي.

الأفراد في مواجهة عبء النجاعة

في موازاة ذلك، يشير الدكتور جويلي إلى بروز الفرد في صورة الفاعل المركزي في المجتمع، لكن ليس بالضرورة من منطلق الحرية، بل من موقع المسؤولية الثقيلة والمفروضة. فالمجتمع، تحت تأثير النظام الرأسمالي الحديث ووسائل التواصل الرقمي، أصبح يُملي على الفرد أن يكون "ناجعًا" في كل شيء: دراسته، مظهره، مسكنه، علاقاته، ووجوده الرقمي..

ويصف جويلي هذا التحول بأنّه "تحوّل في بنية الهوية نفسها"؛ فبعد أن كانت الهوية تُبنى على أساس الانتماء العائلي أو الجهوي، أصبحت اليوم تقوم على مبدأ "من أنت؟" بمعنى: كم أنت ناجع؟ هذه الهوية المرتبطة بالأداء لا تُمنح، بل تُنتَزَع بجهد مستمر وتنافس محتدم.

الكلفة النفسية والاجتماعية

يُؤدّي هذا الضغط المستمر إلى ما يسميه ضيفنا بـ"التعب الجماعي" و"الإرهاق الهوياتي". حيث يشعر الأفراد، وخاصّة الشباب، بأنهم مطالبون دومًا بتحقيق الأفضل، دون تسامح مع الفشل أو التأخر، ما يولّد شعورًا عامًّا بالاكتئاب وانعدام الكفاءة، ليس فقط على المستوى الفردي، بل بوصفه "مرضًا اجتماعيًا" جماعيًّا، على حدّ قوله.

ويُشير إلى أنّ النظام التعليمي نفسه يُغذّي هذا الضغط من خلال "حمّى النجاعة"، إذ يتعامل مع التلميذ على اعتباره "مشروعا ناجعا" لا كائنا في طور النمو النفسي والمعرفي، ما يخلق توترًا كبيرًا في علاقته مع أسرته ويُعمّق من هشاشته النفسية.

الهروب نحو "التحفيز القسري" وحلول خارجية

إزاء هذا الضغط، يرصد الجويلي تنامي ظاهرة ''التحفيز القسري الاجتماعي والنفسي" (dopage)، والتي تتجلّى في أشكال عديدة: دروس خصوصية مكثفة على اعتبارها وسيلة لتدارك النجاعة الدراسية، التضخيم الرقمي للذات عبر الشبكات الاجتماعية من خلال صور وفيديوهات محسّنة، اللجوء إلى المكمّلات الغذائية والمهدئات، بل وارتفاع معدلات استهلاك مضادات الاكتئاب، وحتى اللجوء إلى الدين من خلال "صلاة الاستخارة" وسيلة للتخفيف من عبء اتخاذ القرار في بيئة صارت الخيارات فيها عبئًا لا حرية، على حد تعبير الدكتور جويلي.

ويصف مُحدّثنا هذا المسار بأنه انتقال من مجتمع يحكمه "الضبط الخارجي" (العائلة، المدرسة، الدين) إلى مجتمع يتطلب "الانضباط الذاتي"، حيث أصبح الفرد حارسًا على نفسه، وسجّانًا لها في الآن ذاته. 

نحو وعي نقدي

يُنبّه جويلي إلى أنّ هذه الظواهر لا يمكن اختزالها في مجرد أعراض نفسية فردية، بل هي تحوّلات اجتماعية عميقة تتطلب قراءة نقدية. ويُشدّد على أهمية إرساء مسافة فكرية تجاه هذه القيم الجديدة، لا بهدف رفضها، بل لفهمها وتحجيم آثارها، والتمييز بين ما هو مشروع من الطموح، وما هو عبء غير مبرّر من الضغوط.

تقدّم قراءة الدكتور محمد جويلي تشخيصًا سوسيولوجيًا بالغ الأهمية لحالة المجتمع التونسي المعاصر، حيث أُغرِق الأفراد في دوامة النجاعة، وسط تآكل الإطار العائلي وتضخّم المسؤولية الذاتية. وبينما كان يُفترض أن يكون التحرر من التقاليد مدخلًا إلى الحرية، يبدو أن الفرد قد وقع أسيرًا لنموذج جديد من القيود: قيود النجاح الإجباري، والمنافسة اللامتناهية، والانفصال العاطفي عن الجماعة.

فهل نملك ما يكفي من الوعي النقدي لوقف هذا الانحدار نحو مجتمع ''ناجع /مُنهك''؟..

أمل الهذيلي

للاطّلاع على الحوار الكامل مع الدكتور محمد جويلي، يُمكنكم مشاهدة هذه الحلقة: